مقالات

جشع التجار أم تكلفة البحث.. لماذا يرتفع سعر الدواء؟

عبدالله المصباحي

حسب تقرير خاص بمجلة البحث والتطوير RnD Magazine تم نشره في شتاء العام 2018، فإن صرف أكبر خمس شركات دوائية في مجال البحث والتطوير بلغ 48.670 مليار دولار خلال العام، وتجاوز الصرف الكلي على تطوير الأدوية حاجز ال 200 مليار دولار خلال نفس العام، ومع ذلك لم يستطع الا 59 دواء فقط من الحصول على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية خلال نفس العام، مما يوضح مدى صعوبة وارتفاع تكاليف تطوير الأدوية الجديدة حول العالم، وحسب تقديرات المنظمات العالمية فقد ارتفعت تكاليف تطوير دواء جديد من حوالي 100 مليون دولار في الثمانينات، إلى 802 مليون دولار عام 2003، ووصلت في عام 2018 الى 2.6 مليار دولار.
أسباب ارتفاع تكاليف تطوير الأدوية
في الماضي كان تطوير أي دواء جديد يعتمد فقط على اثبات فعالية الدواء ومدى قدرته على أداء الوظيفة التي تم ابتكاره أو اكتشافه لأجلها، سواء كان معالجة للمرض، أو تشخيصا له، أو تخفيف الأعراض وغيرها من الاستخدامات، ومع الزمن ونتيجة لتطور العلوم وطرق وأجهزة التحليل والملاحظة تم اكتشاف الكثير من الاعراض الجانبية والتداخلات بين الأدوية أو الدواء والغذاء، أو التأثيرات على حالات معينة مثل حالات كبار السن أو الاطفال أو الحوامل والمرضعات، وحتى تأثير بعض الأدوية على بعض الأعراق البشرية، وهذا ما حتم على الجهات الرقابية اشتراط عمل تجارب شاملة لتحديد مدى أمان الدواء على كافة المستخدمين قبل الموافقة عليه، لذلك تجد الكثير من التحذيرات والتعليمات لدى استخدام أي دواء شاملة نشرة بكافة التأثيرات المحتملة لهذا الدواء على المريض المستخدم له.

يؤثر ارتفاع تكاليف التكنولوجيا الجديدة مثل التكنولوجيا الحيوية والنانو تكنولوجي والتي تحتاج لاستثمار كبير في المنشآت وأيضا في تكاليف تطوير مثل هذه الأدوية مقارنة بالأدوية الاعتيادية
ويمر تطوير أي دواء عبر طريق طويل من البحوث تشمل البحوث ما قبل السريرية التي تثبت فعالية الدواء لأداء غرض معين، ثم تبدأ تجارب على الحيوانات، وبعدها على عينات مختارة من البشر الأصحاء (متطوعين) تحت مراقبة شديدة لمراحل استخدام الدواء، ثم يتم استخدامه على شريحة من المرضى، وبعدها تتم التجارب في عدد من البلدان المختلفة حول العالم، وتتم اختبارات الفعالية ودراسة الأعراض الجانبية والتداخلات الدوائية والغذائية، ولا يتم الانتقال من مرحلة لأخرى الا بعد إثبات نجاح الدواء في المرحلة السابقة، وبموافقة الجهات الرقابية وموافقات كتابية من المتطوعين، وبوجود جيش من الصيادلة والأطباء والمحللين والاحصائيين والاداريين وغيرهم، ويحتاج تطوير أي دواء إلى فترة زمنية تتراوح بين 10 إلى 12 سنة، حتى يحصل الدواء على الموافقة النهائية للاستخدام.
أيضا يؤثر ارتفاع تكاليف التكنولوجيا الجديدة مثل التكنولوجيا الحيوية والنانو تكنولوجي والتي تحتاج لاستثمار كبير في المنشآت وأيضا في تكاليف تطوير مثل هذه الأدوية مقارنة بالأدوية الاعتيادية، ومن بين كل 100 دواء تدخل في مرحلة التجارب السريرية لا يصل إلا أقل من 12 دواء لمرحلة الموافقة النهائية وبالتالي فهذا يفسر سبب التكاليف العالية جدا لتطوير الدواء الجديد، وكذلك ارتفاع التكاليف في الفترة الأخيرة.

تأثير ارتفاع التكاليف على تطوير الأدوية الجديدة
من المفروغ منه أن شركات الأدوية تسعى للربح، وكل شركة تسعى للحصول على أعلى مداخيل من أدويتها الجديدة، وعليه فإن تطوير أي دواء جديد لابد أن يكون له مردود اقتصادي يوازي المبالغ اللتي تم صرفها عليه.
وهذا قاد لعدد من الظواهر الخطيرة منها:
أولا: تركيز الشركات على الأدوية التي تستخدم لفترات زمنية طويلة للأمراض واسعة الانتشار مثل أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم والسكري والسرطان والروماتيزم وأمثالها، واهمال كبير للأمراض الغير منتشرة أو الأمراض اليتيمة التي تصيب حالات قليلة حول العالم.

ثانيا: ارتفاع مهول لأسعار الأدوية الجديدة حتى تغطي تكاليف التطوير.

ثالثا: تركيز الشركات على تطوير أدوية لأمراض العالم المتقدم وتقليل الاهتمام بالأمراض الشائعة في بلدان العالم الأخرى نظرا لانخفاض القدرة الشرائية لهذه الدول.

رابعا: إهمال أو تقليل تطوير أدوية هامة جدا مثل المضادات الحيوية الجديدة، نظرا لأن استخدام هذه الأدوية عامة يكون لفترات زمنية صغيرة بمتوسط أسبوع للجرعة الدوائية المعالجة للأمراض وبالتالي لا يستمر استخدامه لفترة طويلة مثل أدوية الأمراض المزمنة.

مهمة تطوير أدوية لعلاج الأمراض أو التخفيف منها مهمة إنسانية تعود فائدتها للجنس البشري كافة، وسوف تستمر فائدتها للأجيال القادمة
وهذه الظواهر أثرت بشكل كبير على خريطة تطوير الأدوية، ورسمت صورة قاتمة للوضع القائم، فهل هناك حلول لتخفيض تكاليف تطوير الأدوية؟

ابتكار حلول لتخفيض تكاليف التطوير
كما لاحظنا أن أحد أكبر أسباب ارتفاع تكاليف التطوير هو الاهتمام بصحة وحياة البشر، عبر تقليل احتماليات التأثيرات المرضية والأخطار التي يمكن أن يحملها أي دواء جديد في حالة اقراره بدون دراسات كافية، ولذلك فإن اقتراح تقليل التكاليف عبر تقليل الاختبارات التي تتم غير عملي من هذه الناحية.
اعلان
لكن من ناحية أخرى فقد وجد أن نسبة 50 إلى 70 بالمائة من تطوير أي دواء تذهب إلى بنود الرواتب والإيجارات والمنصرفات الإدارية، ونظرا لأن معظم تطوير الأدوية يتم في الدول المتقدمة فهذا يعني أن نقل مراكز البحث والتطوير إلى الدول النامية ومتوسطة الدخل يمكن أن يقلل من هذه التكاليف إلى الربع أو ربما أقل، وهذا ما بدأت العديد من الشركات العالمية بفعله عبر انشاء مراكز للبحث والتطوير في دول مثل الهند والصين واندونيسيا ونيجيريا، كذلك عملت الكثير من الحكومات على اعتماد مزايا ومكافاءات عبر الإعفاء الضريبي والمساعدات المباشرة وغير المباشرة للشركات التي تركز على البحث والتطوير.
أما أهم العوامل التي يمكن أن تساعد في الموضوع فهو تكاتف المؤسسات البحثية الحكومية والأكاديمية مع الشركات بهدف عمل الأبحاث على الأدوية المبتكرة المتوقع فعاليتها مع التركيز على الأدوية الشعبية التي يمكن الاستفادة منها عبر تطوير استخدامها واثبات فعاليتها بصورة مطابقة لمتطلبات الأدوية الحديثة، وهذا يعود بفوائد مشتركة لجميع الأطراف، من أهم ميزات تطوير الأدوية أنه يمكن الحصول على منتجات ثورية مطلوبة في الأسواق تباع بالمليارات وتعوض عن احتمالات الفشل الكثيرة في تطوير أصناف أخرى، لذلك رغم أن استثمار التطوير الدوائي عالية المخاطر لكنها أيضا تعتبر مرتفعة الفوائد والعوائد، فقط تحتاج لاستثمار كافٍ وخطط صحيحة للأبحاث والتطوير.
إن مهمة تطوير أدوية لعلاج الأمراض أو التخفيف منها مهمة إنسانية تعود فائدتها للجنس البشري كافة، وسوف تستمر فائدتها للأجيال القادمة، ومثل هذا الهدف النبيل يحتاج لخطة واضحة وعملية تكامل بين كافة الجهات سواء كانت حكومية أو خاصة أو أكاديمية، ويجب العمل على ذلك على مستوى دولنا العربية أيضا وعدم انتظار تطوير الأدوية من الدول الأخرى وبقائنا كمستهلكين فقط.
مدونات الجزيرة- 08/ 12/ 2019

مقالات ذات صلة

اترك ردا

زر الذهاب إلى الأعلى