بايدن وساندرز والدانمارك / توماس فريدمان
كثيراً ما يشير بيرني ساندرز إلى الدانمارك باعتبارها البلد الذي يود أن تكون أميركا مثله تحت إيديولوجيته «الاشتراكية الديمقراطية». حسناً، إليك موجزاً سريعاً للأخبار: إن بيرني ساندرز، بمواقفه العدائية تجاه التجارة الحرة والأسواق الحرة والشركات متعددة الجنسيات، ربما لن يستطيع أن يُنتخب ولو إلى مجلس بلدي في الدانمارك اليوم. والمثير للسخرية أن جو بايدن، بآرائه الأكثر توازناً بشأن التجارة والشركات والنقابات، ربما يستطيع. وهنا جوهر الاختلاف. والواقع أن لدى الدانمارك اقتصاد سوق مفتوح جداً وشديد التنافسية مكرس للتجارة الحرة والعولمة المتوسعة، نظراً لأن التجارة – الصادرات والواردات – تشكّل قرابة نصف الناتج المحلي الإجمالي للدانمارك.
وأنتج سكان الدانمارك الـ5.8 مليون بعضاً من أكثر الشركات متعددة الجنسيات تنافسية في العالم من قبيل إيه. بي. مولر-ميرسك، ودانسك بانك، ونوفو نورديسك، وكارلسبرغ جروب، وكولوبلاست، وليغو جروب، ونوفوزيم. وهذه هي الشركات متعددة الجنسيات العملاقة جداً التي ما فتئ ساندرز يهاجمها.
ومثلما قال رئيس الوزراء الدانماركي السابق لارس لوك راسموسن في خطاب في كلية كينيدي للحكومة بجامعة هارفارد لمن لا يفهمون بشكل كامل الأنموذج الدانماركي: «أودُّ توضيح شيء، إن الدانمارك بعيدة كل البعد عن اقتصاد اشتراكي مخطَّط. فالدانمارك اقتصاد سوق. والأنموذج الإسكندنافي عبارة عن دولة رفاه اجتماعي موسع توفّر مستوى عالياً من الأمن لمواطنيها، ولكنها أيضاً اقتصاد سوق ناجح فيه حرية كبيرة للسعي لتحقيق أحلامك وعيش حياتك كما تشاء».
من خلال هذه المحركات، محركات الرأسمالية والتجارة الحرة والانفتاح الاقتصادي والعولمة، تمكنت الدانمارك من أن تصبح غنية بما يكفي لتوفير شبكة الأمان الاجتماعي التي تثير إعجاب ساندرز عن حق – مثلما تثير إعجابي: وصول الجميع إلى رعاية الأطفال، والإجازة المرضية وإجازة الأُبوة، والتعليم الجماعي المجاني، ومنحة للعيش، ورعاية صحية شاملة، وتقاعد سخي.
غير أن لا شيء مجاني بخصوص هذه الخدمات. فوفق موقع «إنفيستوبيديا»، فإن ضريبة الدخل التصاعدية في الدانمارك تصل إلى 55.8 في المئة والفرد المتوسط يدفع 45 في المئة. كما يدفع الدانماركيون ضريبة سوق العمل قدرها 8 في المئة، وضريبة الرعاية الصحية قدرها 5 في المئة، إضافة إلى ضرائب بلدية مهمة وضريبة ضمان اجتماعي. كما أن الدانمارك لديها أعلى ضريبة مبيعات وطنية في الاتحاد الأوروبي – 25 في المئة – على معظم السلع والخدمات، وهي ضريبة كبيرة على الطبقة الوسطى.
باختصار، لقد انتقى ساندرز الدانمارك بعناية، وهو يركز على ما يحب – كل ما توفره الدولة الدانماركية – ويتجاهل شيئين: شيء واضح ومهم، وشيء أقل وضوحاً وأكثر أهمية.
الشيء الواضح هو الرأسمالية القائمة على ريادة الأعمال التي تخلق ازدهار الدانمارك. أما الخاصية الأقل وضوحاً والأكثر أهمية بشأن نجاح الدانمارك، فهي الميثاق الاجتماعي القائم على مستوى عالٍ من الثقة بين مجتمع الأعمال والنقابات ورواد الأعمال الاجتماعيين والحكومة. تلك هي الوصفة السرية للأنموذج الدانماركي.
ولا شك أن خلق ذاك النوع من الثقة في بلد صغير ومتجانس إلى حد كبير بـ5.8 مليون نسمة أسهل من خلقه في دولة متنوعة بـ327 مليون نسمة مثل الولايات المتحدة. ولكن بيت القصيد هو أن لا أحد كان يشيطن الآخرين باعتبارهم «فاسدين» بسبب هويتهم فقط – سواء أكان زعيماً نقابياً أو عملاق شركات أو شخصلً ثرياً. فقد يدركون أن توازن كل مصالحهم هو الذي جعل نمو الدانمارك الاقتصادي وشبكة أمنها الاجتماعي ممكنين.
في الطبيعة، تزدهر الأنظمة البيئية أكثر عندما تكون في حالة «توازن». والطبيعة تحقق هذا التوازن بطرقها الخاصة، وبعضها عنيف وقوي. وبدورها، تزدهر الأنظمة السياسية أيضاً عندما تكون في حالة توازن. والدانمارك وجدت توازناً صحياً لمصالح رأس المال والعمال ورواد الأعمال الاجتماعيين والحكومة. والازدهار والتكيف من قبل كل واحد يقوّي الآخر.
وبالمقابل، أميركا الآن من دون توازن. وجميعنا نلمس ذلك في التفاوت الاجتماعي الصارخ والمتزايد الذي نراه حولنا. ساندرز يريد حقاً القضاء على ذلك. وللأسف، الكثيرون منا يرغبون في ذلك أيضاً.
غير أنه عندما تبدأ حديثك، مثلما يفعل ساندرز، بشيطنة كل رواد الأعمال الأميركيين الذين يركبون الأخطار باعتبارهم فاسدين، وبالتعهد بإعادة توزيع دخلهم، وبادعاء أن كل الفوائد يمكن تمويلها من قبل الأغنياء ولا شيء من الطبقة الوسطى.
والحقيقة أن جو بايدن قد يكون زعيماً من النوع الاسكندنافي أحسن من بيرني ساندرز. ذلك أن بايدن، في نظري، من المرجح أكثر أن ينشئ عقداً اجتماعياً جديداً في أميركا أكثر من ساندرز إن أصبح رئيساً، وذلك لأن بايدن لا يهتم فقط بالطبقة العاملة والمشردين، ولكنه يفهم أيضاً الحاجة للوصول إلى التعليم والرعاية الصحية مدى الحياة. كما يدرك أنك لن تحقق ذلك عبر شيطنة محركات الرأسمالية وخلق الوظائف، بل عليك أن تجد طريقة للعمل معها.
إن الدانمارك لم تصبح الدانمارك بسبب ثورة، بل تطورت ووصلت إلى حيث هي اليوم من خلال التكيف المستمر، وعليه، فإذا كان العقد الاجتماعي الدانماركي هو أنموذجك، فإنني سأثق في بايدن أكثر من ساندرز ليقودنا إلى هناك.
صحيفة الاتحاد