الجدلية بين صندوق النقد الدولي والنيوليبرالية/ عامر زياد جلول
“صندوق الشيطان” هكذا أطلق عليه الشعب الأرجنتيني، بعد أن عانوا ما عانوه من فقرٍ وتدهورٍ في الوضع الإقتصادي والمعيشي بسبب شروطه القاسية، أما المهاتير محمد، الذي إستطاع أن يهرب من خدعة الصندوق، فلقد قال:إن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يزيد الدولة فقرًا وفشلاً.
فإن شروط صندوق النقد الدولي تعجيزية، فإنها تشتطر على الحكومة أن ترفع الدعم عن المواد الأساسية، ناهيك عن زيادة الضرائب بشكل جنوني، فهذه السياسة الضريبية تستهدف الطبقة الوسطى والفقيرة، التي سوف يتم سحقها تمامًا، مما يعني ترسيخ الفجوة الطبقية بين الشرائح الإجتماعية، ثم ترشيد الإنفاق الحكومي، ثم الأهم من ذلك هو خصخصة القطاعات الحكومية والمرافق العامة، حيث هنا تكمن الخطورة التي سوف نتطرق لها لاحقًا. ولكن قد يتساءل البعض ما هي العلاقة بين صندوق النقد الدولي والرأسمالية المتوحشة المسماة اليوم بالنيوليبرالية؟
في سنة 1929، تعرض العالم إلى إنتكاسةٍ كبيرة على المستوى الإقتصادي، سُمي آنذاك بالكساد الكبير، حينها تم إنتقاد اللّيبراليّة التّقليديّة التي أوصلت العالم إلى هذه النكسة ونقضها، ثم طُرحت نظريّة كينز، التي تطالب بتدخّل الدّولة، وتحويلها إلى دولة تدخليّة، بعد أن كانت دولةً حارسة، قائمة على مقولة آدم شميث :
دعه يعمل، دعه يمر.
ولكن هذه النظرية لم تُعجب الكثير من أصحاب رؤوس الأموال، وبدأ الشعور لدى الرأسماليون، أن تلك القيود، التي رسمها جون كينز، تعزز من قوة البيروقراطية على حساب الرأسمالية، فلقد خرج الفيلسوف الإقتصادي النمساوي فريدريش فون هايك لتأسيس نظرية النيولبيرالية، وهي النموذج المتوحش لليبيرالية التقليدية، التي تم إعلان فشلها في أزمة الكساد الكبير مؤخرًا. وعلى المقلب الآخر، إنتهت الحرب العالمية الثانية، حيث تم تأسيس نظامًا عالميًا جديد، فتم إنشاء عدة منظمات دولية من ضمنها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. بعد إنتهاء الحرب وتأسيس الأمم المتحدة التي أوكل لها مهام إرساء السلام العالمي، ولكن هل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، هي جميعية خيرية كي تساعد الدول المنكوبة أو الغارقة في الديون وتنتشلها من أزمتها؟ ما الغاية من هذه المساعدات التي يعرضها صندوق النقد الدولي؟
صراع الدول والحضارات حتمية، هي من النواميس البشرية الملاصقة مع ولادة الأنسان لا مفر منها، فالقوي يأكل الضعيف، ولكن هذا الصراع يختلف في الشكل مع الوقت ولكن المضمون يبقى هو نفسه، فهذا الصراع اليوم قد أخذ شكلاً مغايرًا للسابق، بعد إجتياح العولمة العالم في شقيه الإقتصادي والسياسي ، تم ترسيخ الفلسفة الجديدة التي عُرفت بالنيوليبرالية، وبهذه الطريقة الخبيثة، أصبح للعالم الغربي يد متوحشة جديدة إسمها صندوق النقد، فإن دول العالم الثالث بعد خروج المستعمر، لم يكن مؤهل لإستقبال الديمقراطية، بسبب قصور حقلها المعرفي الإنساني، فالحرية والديمقراطية تحتاج إلى سنواتٍ من الوعي وتأصيله في عقل الإنسان، ففشل العالم الثالث في إدارة الكيانات السياسية الجديدة، التي كانت مستعمراتٍ سابقة، فلجأت الدول الكبرى إلى خدعة الصندوق، كي تحول تلك الدول إلى دولٍ فاشلة، كي تسطير عليها الشركات العملاقة وأصحاب رؤوس الأموال وتحولها من كيان ذي منفعة عامة إلى كيان ذي منفعة خاصة، وتزداد ثروات الأغنياء ويزداد الفقراء فقرًا.
في لبنان، إنكشف مدى الإنهيار، الذي تمر به البلاد بعد ثورة 17 تشرين، فقررت الحكومة اللبنانية اللجوء إلى صندوق النقد الدولي “الجرعة القاتلة”. بعد أن إنتهت الحرب اللبنانية في سنة 1990، فلقد تم توقيع إتفاق الطائف الذي أرسى تغييراتٍ في المشهد السياسي، وتم تعديل الدستور، ولكن للحقيقة فلقد تم تقويض الدولة إلى حدٍ ما، وتم إستكمال مشروع النيوليبرالية التي بدأت فعليًا في سنة بعد ضرب بنك إنترا سنة 1966. بعد الطائف، طُرحت فكرة خصخصة المؤسسات العامة، مثل مؤسسة مياه لبنان وكهرباء لبنان وغيرهما، بمعنى آخر تحجيم الدولة وإعفاءها من مهامها الإجتماعية والتوجيه الإقتصادي ورعاية المواطن وحماية الوطن وسيادته، وإطلاق عنان للشركات الرأسمالية الخاصة، حيث أصبحت هي الآمر الناهي في الحياة الإقتصادية والسياسية، فالنيوليبرالية هي عبارة عن تحالف بين شركاتٍ عالمية وعسكريتارية وأنظمة أمنية إستخبارتية، مدعومةٌ فكريًا من مراكز أبحاث وجامعاتٍ تروج لهذه الفلسفة. واليوم، جاء فكرة الصندوق النقد الدولي، الذي فعليًا سوف ينهي دور الدولة في دورها تجاه المواطن اللبناني الذي يأن من التعب والفقر والجوع عبر رفع الدعم عن المواد الأساسية ورفع الضرائب بشكل جنوني دون أن تكون ضريبة تصاعدية، إضافةً إلى سياسة التقشف.
يظن الكثير أن هذه الخلطة السحرية، سوف تساهم وتعيد الحياة الإقتصادية إلى وضعها الطبيعي، إضافةً إلى أن هدفها الأساسي هو التنمية والإنماء، ولكن في الحقيقة، إن صندوق النقد ليس الإ أحد أذرع النيوليبرالية المتوحشة، التي تهدف إلى إطلاق عنان أصحاب النفوذ والأموال وسيطرتها على كل ثروات البلد وتحويل الدولة إلى شركاتٍ خاصة سوف تتعاون مع الشركات المثيلة لها في دول الخارج كي يشكلوا في الخفاء حكومة عالمية تُدار من أغنى أغنياء العالم.
نقلا عن مدونات الجزيرة