المنافسة كضرورة لتخفيض أسعار المواد الغذائية في موريتانيا / بوبكر ولد أحمد
شهدت أسعار المواد الغذائية في موريتانيا ارتفاعا قياسيا منذ عدة أسابيع وهو أمر متوقع جدا بسبب تداعيات كورونا لكن الطبيعة الفوضوية والاحتكارية للسوق المحلي ضاعفت من هذا الارتفاع وزادت من شدة وطئته على السكان الذين تعيش غالبيتهم العظمى قريبا جدا من حدود خط الفقر.
ولقد ظلت هذه الأسعار مرتفعة عموما في موريتانيا منذ عقود، بسبب الاحتكار و فوضي السوق ، وفي هذا الإطار أجري البنك الدولي دراسة مفصلة لتركيبة أسعار القمح و الأرز في نواكشوط عام 2014 خلص من خلالها إلي أن حوالي نصف هذه الأسعار ليس سوى هامش ربح للتجار المحليين ، وقد استنتج البنك في الصفحة 22 من تحليله (The systematic country diagnostic) الصادر 2017 أن أسعار المواد الغذائية المرتفعة تعتبر من الأسباب الرئيسية للفقر في موريتانيا ، حيث يقول:
(أسعار المحلية للقمح والأرز في نواكشوط أعلى بكثير من الأسعار الدولية. في الفترة 2004-2016، كان متوسط سعر القمح ودقيق القمح في نواكشوط أعلى بنسبة 73 في المائة و 130 في المائة على التوالي من الأسعار العالمية، بينما بلغ متوسط الفجوة في الأرز 92 في المائة و 134 في المائة) . وأيضا (كشف تحليل تركيبة تكلفة القمح والأرز المستورد في نواكشوط في عام 2014 أن أكثر من نصف سعر التجزئة يمكن أن يُعزى إلى هوامش ربحية للتجار الموزعين، بينما تلعب التعريفات والضرائب وتكاليف الحمالة والنقل دورًا ثانويًا فقط. وعلى الرغم من أن نظام استيراد المواد الغذائية يبدو ليبراليًا وشفافًا، إلا أن الأسعار المحلية والتي تتأثر بهوامش ربح المستورد تشير إلى أن القطاع، من الناحية العملية، تهيمن عليه لوبيات المصالح ويتأثر بممارسات غير تنافسية).
و قد أكدت منظمة التجارة العالمية النتيجة التي وصل اليها البنك الدولي حيث أوردت في وثيقة أصدرتها عام 2018 بعنوان (تحليل السياسات التجارية في موريتانيا) الصفحة 63 و 64 ما يلي :
(يتميز سوق الغذاء الموريتاني بقليل من “مجموعات مصالح (لوبيات) مرتبطة بالفاعلين المحليين الوازنين” تهيمن على التوزيع بالجملة للأرز وغيره من المواد الغذائية الرئيسية، وهو ما يفسر جزئيًا حقيقة أنه في عام 2015 ” السعر المحلى للأرز المستورد يساوي ضعفي السعر العالمي، والسعر المحلى للقمح أعلى بنسبة 60٪ “يبدو أن هؤلاء المستوردين في وضع oligopolistique (احتكار من طرف مجموعة قليلة ) ، ومن المرجح أن تؤدي ممارساتهم للمضاربة إلى تقويض الأمن الغذائي ).
بالتالي من الواضح أن حوالي نصف ثمن شراء البضاعة يذهب للمستورد الموريتاني (بهذه الثروة يعزز موقعه سياسيا واجتماعيا حتى يتمكن من المواصلة في حماية احتكاره والقضاء على أي منافسة محتملة).
في السنوات الأخيرة زادت قوة كبار مستوردي المواد الغذائية وسيطرو على المصارف واللوجستيك الضروريين لاستيراد البضائع حيث أصبح لكل واحد منهم بنك خاص به (يوفر لنفسه السيولة النقدية و العملات و خطوط الائتمان اللازمة للاستيراد و يمنعها عن منافسيه) …الخ و قد تمددت نفس المجموعة للسيطرة علي قطاعات أخري كالصناعة ،الأشغال العامة و الفنادق …الخ ، وقد لاحظ البنك الدولي في اطار دراسة عن المنافسة التجارية في موريتانيا أنه أصبحت هناك فقط حوالي تسع مجموعات صناعية و تجارية ذات طبيعة عائلية تسيطر علي غالبية القطاعات الاقتصادية الرئيسية في البلاد !! .
وقد وصلت قوة هذه المجموعة لدرجة أنها سيطرت علي الآلية التي وضعتها الدولة أساسا لضبط السوق عند الحاجة حين اعتمدت ليبرالية هذا القطاع (شركة سونمكس ) فبدل أن كانت هذه الشركة تشتري من المصانع العالمية مباشرة و توزع في السوق من أجل التحكم في الأسعار كلما دعت الحاجة، أصبحت الشركة تشتري من عند نفس التجار (بأسعار السوق المحلي) و تبيع بأسعار مخفضة في مناطق محددة !!! وهي الممارسات التي أدت في النهاية إلى إفلاس الشركة وتصفيتها نهائيا.
هذا الواقع الكارثي ظل دائما يشكل عائقا كبيرا أمام جميع الجهود الوطنية لمكافحة الفقر وتحديا كبيرا أمام تحقيق الأمن الغذائي كما شكل سببا مباشرا في عزوف التجار الوطنيين عن تمويل المجال الزراعي (حيث هامش الربح في استيراد المواد الغذائية أقل تعبا وأكثر ربحية).
والغريب ان معظم السياسات التنموية الوطنية في المجالات السابقة الذكر (مكافحة الفقر، الأمن الغذائي.. الخ) لا تكاد تجد فيها ذكرا لهذا الارتفاع الخيالي في سعر الغذاء ولا أي اقتراح لتخفيضه. بالتالي لا غرابة ان فشلت تباعا بسبب تجاهل هذه الإشكالية الجوهرية.
إذا من الواضح أنه بالإمكان نظريا تخفيض الأسعار بحوالي النصف وذلك عن طريق:
أولا : وضع خطة لكسر الاحتكار تدريجيا وذلك عن طريق تشجيع فاعلين جديد من التجار المتوسطين علي الاستيراد (تمكينهم من الحصول علي العملات الصعبة ، وخطوط الائتمان ، و تسهيل الاجراءات الجمركية ..الخ).
ثانيا: وضع آلية للتحكم في الأسعار عبر شراء البضائع مباشرة من المصنع (وليس عبر نفس التجار كما يجري منذ سنوات) من طرف الحكومة وتوزيعها في السوق من دون هوامش ربحية (كما كانت تمارس سونمكس قبل عقود) لإجبار المستورد على تخفيض الأسعار.
بالتالي بدل أن كان المواطن البسيط يدفع سعر (البضاعة عند البلد المصدر + الشحن + الجمركة + هوامش للموزعين تصل ضعف سعر البضاعة عند المستورد)
سيدفع (البضاعة عالميا + الشحن + جمركة رمزية + ربح بسيط للمستورد + هوامش بسيطة للموزعين ينبغي ان تكون في حدود 20 % الي 30% على أكثر تقدير)
ختاما: إن هذه الإجراءات وإن كانت تبدو بسيطة وواضحة من الناحية النظرية لكنها من الناحية العملية تحتاج إرادة قوية وتكلفة سياسية كبيرة. حيث أثبتت تجارب الدول الأخرى أنه من الصعب تنفيذ سياسات محاربة الاحتكار في الأسواق التي تهيمن عليها مجموعات تجارية راسخة. فمثلا عجزت لجنة الممارسات التجارية النزيهة في كوريا الجنوبية عن كبح الممارسات الغير تنافسية للمجموعات الكبرى في البلاد (و التي عرفت آنذاك بعائلات التشايبول الكوري) خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بسبب وجود حلفاء أقوياء لهذه الشركات داخل الحكومة الكورية آنذاك مما تطلب إصلاحا سياسيا موازيا.
فهل تستطيع موريتانيا نظاما ومجتمعا أن يتحمل مثل هذه الإصلاحات في الوقت الراهن؟؟