نظام كورونا الاقتصادي
بقلم: محمد كركوتي
“رغم التحفظات من دول مثل ألمانيا، إلا أنه لا يمكننا التخلي عن معركة الإنقاذ المالي”
إيمانويل ماكرون؛ رئيس فرنسا
يدور حاليا خلاف “ولا سيما على الساحة الأمريكية”، حول كيفية إدارة الاقتصاد في ظل وباء “كورونا” المستجد، رغم أن المصائب التي أتى بها هذا الوباء، تستوجب وضع كل الخلافات جانبا، لسبب بسيط، هو أنه لا يمكن أن تواجه استحقاقات الاقتصاد، بينما الأضرار الناجمة عن كورونا، تظهر على مدار الساعة. ويبدو واضحا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب؛ المتحمس لإعادة تحريك اقتصاد بلاده بأسرع وقت ممكن، تراجع بعض الشيء عن حماسه هذا، مع قراره إغلاق عدد من الولايات؛ لاحتواء الوباء القاتل، وفي مقدمتها بالطبع نيويورك، تلك الولاية التي نال منها كورونا بصورة فظيعة، مقارنة ببقية الولايات في البلاد. عرف المسؤولون الأمريكيون، أن مسألة تحريك الاقتصاد، ليست بهذه السهولة، بينما يلوث الوباء كل مكان تقريبا.
على الساحة الأوروبية بدأت “معركة” تدور حول كيفية تحريك اقتصادات الاتحاد الأوروبي، بعد الانتهاء من هذا الوباء، بعد أن نال الوباء من أكثر من 300 ألف شخص في دول الاتحاد، حتى كتابة هذه السطور. وهذه “المعركة” تقليدية، لماذا؟ لأنها هي نفسها التي تنشب في الأزمات المالية بين الأطراف ذاتها. فرنسا “الأم” الأكثر حرصا على مستقبل الاتحاد الأوروبي، وألمانيا الحريصة هي الأخرى على هذا المستقبل، لكنها تقاوم بعض الشيء في البداية. فهي تعرف أنه لا يوجد “ممول” أوروبي مؤهل لإنقاذ الاتحاد ماليا سواها، إلى جانب فرنسا، التي تعاني مشكلات اقتصادية طويلة. ففي النهاية لا بد من إنقاذ هذه الكتلة الموحدة الأكبر في العالم، بغض النظر عن التضحيات.
ليست مهمة كثيرا تحذيرات جوسيبي كونتي؛ رئيس وزراء إيطاليا، أن “التكتل بكامله قد يفقد سبب وجوده، إذا ما تم ارتكاب أخطاء في علاج الأزمة المتصاعدة حاليا”. فقد تلقى في النهاية الرد القوي من إيمانويل ماكرون؛ الرئيس الفرنسي. فهذا الأخير يتحرك في كل الاتجاهات في الوقت الراهن، من أجل اعتماد ما يسمى “قروض كورونا”، وشدد على التضامن المالي الأوروبي. هذا وظهر صوت ألمانيا غير المتحمس للفكرة، وكان متوقعا. لكن في النهاية، لا يوجد بديل آخر لما طرحه ماكرون؛ إذا ما كانت النيات صادقة فعلا في الحفاظ على كيان الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني أصلا اهتزازات خروج بريطانيا منه. الرئيس الفرنسي استخدم تعبيرا له دلالات قوية حين قال “لا يمكننا التخلي عن هذه المعركة”.
ومهما كانت المواقف الأمريكية والأوروبية، فـكورونا أحكم قبضته على العالم بقوة ناشرا الرعب في كل الأرجاء. والمأساة هنا، أن العالم مضطر للعيش مع هذا الفيروس، حتى يظهر اللقاح المضاد له الذي ينتظره. وهذا يعني أن الاقتصاد الدولي سيبقى رهينة لهذا الوباء، وعلى الجميع أن يرسم استراتيجياته على هذا الأساس. الشيء المؤكد، أن الأضرار الناجمة عن كورونا ستكون أكبر من الأضرار التي خلفتها الأزمة الاقتصادية العالمي التي انفجرت عام 2008. فقد بدأت أشكالها بالظهور على الساحة بصور قاسية، في مقدمتها، إغلاق الاقتصادات برمتها، وإبقاء اليد العاملة في منازلها، وبداية اندثار قطاعات بأكملها، فضلا عن التحولات الهائلة في كل شيء اقتصاديا واجتماعيا وصحيا حتى سياسيا. والأسوأ من هذا كله، أن العالم لا يزال في البداية.
بدأت حزم الإنقاذ المالي بالظهور في كل الدول تقريبا. وهذه الحزم، انطلقت صغيرة إلا أنها تسير بمعدل أسبوعي نحو الأعلى. والسبب واضح، يتعلق باستمرار الوباء وتعاظم أضراره. فضلا عن التوجه إلى تأميم بات وشيكا لمؤسسات وشركات محورية في قلب الدول الرأسمالية، وبالطبع هذا يعني مزيدا من الديون السيادية، وعجزا تاريخيا هائلا في الموازنات العامة. على سبيل المثال، يبلغ الدين الإيطالي حاليا أكثر من 145 في المائة من الناتج المحلي للبلاد، والأمر ليس أفضل في دول كإسبانيا وفرنسا وغيرهما. التوقعات من الجهات الاقتصادية العالمية ليست فيها بارقة أمل واحدة. فبينما تذكرت أعداد العاطيين الذين خلفتهم الأزمة الاقتصادية العالمية “بلغوا 23 مليون شخص”، تتحدث الآن عن 25 مليون سيخلفهم كورونا.
الإفلاس سيكون سيد المشهد، ويعني هذا مزيدا من الأعباء على كاهل الدول. الأمثلة على الأضرار تكاد لا تحصى، لكن تكفي الإشارة إلى ما قالته منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد»، إن الاستثمارات الأجنبية ستتراجع ما بين 30 و40 في المائة خلال عامي 2020 و2021. إنه مؤشر يختصر الحالة كلها. لا توجد دولة تستطيع تحريك اقتصادها، وهي تقاوم وباء كورونا. وليس أمام هذه الدول أو تلك، إلا التدخل الفوري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو بالأحرى ما يستحق إنقاذه. الاقتصاد العالمي دخل مرحلة كورونا بكل تبعاتها واستحقاقاتها وأضرارها ومآسيها. والساحة الآن لا تتحمل خلافات في وجهات النظر. ففي حالات الطوارئ، يكون النقاش العدو الأكبر، والجدل يوفر مزيدا من الوقود لوباء قاتل “غير مرئي” سريع الانتشار، لا أحد يعلم متى سينتهي.
نقلا عن جريدة الاقتصادية