اقتصاد إسلاميمقالات
“تحويل المرابحة إلى مخاسرة: مشكل تغطية الديون في البنوك الإسلامية”/ الدكتورة رقية أحمد منيه
من العلوم عند أهل التخصص أن أكثر العقود المعاصرة تداولا في سياق المعاملات المتوافقة مع مقتضيات الشريعة الإسلامية هو عقد المرابحة للآمر بالشراء أو الواعد بالشراء أو المرابحة المصرفية كما يطلق عليها البعض تبعا لاختيار لجنة المطابقة بشأن إلزامية الوعد من عدمها، وكذلك تعتبر الأكثر تعرضا للبحث والدراسة والتمحيص وحتى الانتقاد أحيانا، سواء أكان ذلك من جهة التأصيل أم من جهة التطبيق؟، غير أن المتتبع للعملية بشكل إجرائي يتبين له تصنيف العقد ضمن العقود المركبة الغالبة على البدائل المعاصرة للمنتجات البنكية، وتخضع ممارساتها لضوابط الجمع بين العقود ، وتعرف بأنها:« بيع المؤسسة إلى عميلها -الآمر بالشراء- سلعة بزيادة محددة على ثمنها أو تكلفتها بعد تحديد تلك الزيادة-ربح المرابحة- في الوعد»؛ وتتكون من ثلاثة أطراف البائع والمشتري والبنك.
وتسمى مركبة لاشتمال العملية برمتها على سلسلة من الخطوات الإجرائية؛
أ- طلب التمويل لشراء السلعة
ب- تقديم ضمانات توثق من قبل الزبون
ت- الموافقة على طلب التمويل
ث- شراء البنك للسلعة محل الطلب
ج- تملك البنك للسلعة وحيازتها
ح- بيع البنك السلعة للزبون
خ- إعداد جدول السداد على دفعات
د- إنشاء علاقة مديونية بين البنك والزبون
ذ- إنهاء العملية محاسبيا عند دفع آخر قسط
ر- إرجاع الضمانات إلى الزبون بعد الدفع النهائي.
وعند تنفيذ الخطوات السابقة، يطلب الحذر التام من الوقوع في دائرة المحظور حال وقوع المواطأة في الجمع بين العقود، وغالبا ما تحدث بسبب غياب التدقيق الشرعي المصاحب لتنفيذ وتسجيل العملية محاسبيا، ولذلك ينبغي التنبيه على الصنوف المتعددة للمواطأة، وترجع في الجملة إلى أربعة أنواع:
1- المواطأة على الحيل الربوية: مثل التمالؤ على العينة وعكسها– والجمهور على تحريمها؛ لكونها ذريعة إلى الربا-، وبيع الوفاء، والحيلة إلى ربا الفضل، وهي محظورة شرعا، ويترتب عليها فساد العقود التي يتوسل بها إلى ذلك.
2- المواطأة على الحيل الربوية: مثل الاتفاق على الجمع بين القرض والمعاوضة، أو على دفع المقترض للمقرض هدية أو زيادة في القدر أو الصفة على المال المقترض، فلا يجوز ذلك.
وتعتبر المواطأة موجبة لمنع تلك الذرائع المباحة في الأصل، ومناطا لحظرها شرعا بشرطين:
الأول: أن يكون التوسل بما هو مشروع إلى ما هو محظور في تلك المعاملة كثيرا بمقتضى العادة، وأن تقوى التهمة وتظهر على قصد ذلك المحظور وإرادته.
الثاني:ألا يكون هناك حاجة أو مصلحة راجحة إلى تلك المعاملة.
3- المواطأة على المخارج الشرعية: وهي الحيل المحمودة التي لا تخالف وسائلها دليلا شرعيا، ولا تناقض أغراضها مقاصد الشريعة، ولا تؤول إلى مفسدة خالصة أو راجحة، وحكمها الجواز.
4- المواطأة على الجمع بين عقود متناقضة أو متضادة: وهي فاسدة محظورة، بناء على عدم جواز الجمع بين عقدين فأكثر بينهما تناقض أو تضاد أو تنافر في الموجبات والآثار، لأنها وسيلة إليه.
وإذا ثبت خلو المعاملة من كل ممنوع شرعا، ودخلت في مرحلة الإثبات المحاسبي، تنتقل غالبا من خانة عقود بيوع الأمانات إلى عقود المداينات، وتصبح أقساطا مستحقة السداد على الزبون طالب التمويل، وتترتب عليها آثار محاسبية ومالية تظهر في قائمة المركز المالي، وتحسب عوائدها المالية (هامش الربح) باعتبارها أرباحا على العملية التمويلية، ولكن إذا حصل تعثر في السداد لأقساط متتالية، تنقلب العملية إلى خسارة محققة، خاصة إذا كان المصرف قسط الأقساط لآجال قصيرة وكانت الضمانات غير قابلة للتسييل وعجز المدين عن السداد، مع العلم أن أي زيادة أو إضافة مبالغ على المرابحات الأصلية عند تأخير السداد أو جدولة ديون المرابحة، تعتبر محرمة بالإجاع، فأي تأخير عن سداد أقساط المرابحة لا يخلو من حالتين:
1- أن يكون الزبون عاجزا عن السداد بسبب وجود طارئ غير متوقع يحيله إلى معسر؛ فنظرة إلى ميسرة.
2- أن يكون قادرا على السداد مماطلا في الأداء دون عذر شرعي، فيجوز تغريمه والتعريض به لدى الجهات المختصة ووضعه في القائمة السوداء لدى البنك المركزي عملا بالحديث الشريف:(( لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)).
إن الإشكال ينشأ عن التطبيق دون التأصيل، فالنصوص الشرعية صريحة، ولكن تمثلها على واقع المعاملات اليوم في ظل غياب قانون تحصيل ديون متوافق مع الشريعة الإسلامية، وضياع كثير من الحقوق المالية للمؤسسات، ووجود تراجع للثقة بين المتعاملين، وتناقص القدرة المالية والملاءة عند الزبناء، ومشكلة تسييل الرهون والضمانات ما أدى إلى مشكلة كبيرة في تغطية الديون المتأخرة السداد في البنوك الإسلامية.
إن التسليم بتحريم الزيادة على أصل التمويل لا مشاحة فيه بل يشكل المنطلق الأساس لكل عقود المداينات أو عقود البيوع الآجلة باعتبارها بيعا عند الابتداء دينا عند الانتهاء.
إن تأخير السداد معضلة تواجهها المرابحة بل تواجهها جميع البيوع الآجلة في البنوك الإسلامية، ولها آثار كارثية على السيولة والربحية وحتى القدرة التمويلية للبنوك الإسلامية، ولن تساهم غرامة التأخير المتوجهة إلى وجوه الخير في حلها؛ لأنها ببساطة لا تمثل عائدا ماليا تستفيد منه المؤسسة.
كما أن عقبة التضخم التي تواجه القيمة الأصيلة للمبالغ المالية المستحقة من قبل الدائن المتمثل في المؤسسة المالية؛ حيث تتراجع القيمة الزمنية للنقود الورقية بالتوازي مع المماطلة والتسويف في دفع الديون المستحقة لمدة قد تزيد على سنوات مالية متتالية تؤثر محاسبيا على حسابات الأرباح والخسائر وهو ما يضعف المركز المالي للمؤسسة.
وتأسيسا على المعيار الشرعي الخاص بالمدين المماطل الذي تناول التأصيل الشرعي لحرمة اشتراط التعويض المالي نقدا أو عينا وهو ما يسمى بالشرط الجزائي على المدين إذا تأخر عن سداد الدين، وإنما أجاز التزام المدين بالتصدق بمبلغ أو نسبة من الدين تصرف في وجوه الخير بناء على القول بجواز الالتزام بالتبرع،
ولكن المعيار أغفل مسألة الاعتبار المحاسبي للعملية وكيفية التكييف مع إعداد حساب الأرباح والخسائر،
فإذا احتسبنا المبلغ عائدا ماليا للعملية صار زيادة على الأصل،
وإذا صرف في وجوه الخير لم يعد ربحا يكيف على أنه مصروف متعلق بتكاليف العملية،
وليس للبنك منفعة في عملية غير مربحة وهو مؤسسة استثمارية تبحث عن الربح،
ثم إن العقوبة المالية المقدرة على المخالفات المنصوصة تكون من حق السلطة المالية العامة أو جهة الوصاية،
فلماذا لا توجد ترسانة قانونية تسند التعامل بعقود التمويل الإسلامي؟ وتسد الفراغ والثغرات القانونية وتجنب البنوك الإسلامية غائلة التغطية وفق مبدأ الفائدة الربوية؟
وكيف يمكن استرداد حقوق المؤسسة دون حصول خسارة متعلقة بفوات قيمة المبلغ الأصلي بسبب مشكل التضخم؟
وهل تمكن إعادة التصور طبقا لتصنيف النقود الورقية نقودا إلزامية ليست لها قيمة ذاتية؟
أم أن الحلول تكمن في ابتكار أدوات مالية غير عقود المداينات؟ أم أن عقود المرابحات قد استنفدت قدراتها التمويلية؟ أم أنه قد آن الآوان للانتقال نحو عقود المشاركات المتناقصة وتكييفها مع الإطار التنظيمي والبحث في جدوائيتها!.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيد ولد آدم محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.