مقابلات

المهندس ولد سيد الخير : كورونا عرى سياسات العبث الغذائي.. ولا عاصم من كارثة محدقة سوى الاعتماد على الموارد الزراعية الذاتية

نقلا عن وكالة مصدر للأنباء
في إطار سعينا لتسليط الضوء على التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لجائحة كوفيد ۱۹ التي عصفت بالأسس الصلبة لاقتصادات القوى العظمى، نستطلع في هذا الحوار الخاص التداعيات السلبية المحتملة على مستوى الأمن الغذائي الوطني ، ونتعرف على إشكالية الأمن الغذائي في موريتانيا، واستراتيجياته المنتهجة من قبل أنظمة الحكم المتعاقبة.

سبرنا أغوار الماضي، لنحكي مرحلة انتقال الموريتانيين من الريف، حيث الكلأ والمرعى الخصيب والألبان المتوفرة واللحوم المتاحة، إلى مدينة كانت بخيلة مع ضيوفها، النازحين تحت إكراه جائحة طبيعية، حيث لم توفر لهم القِرى ولا الزاد، ولم تتسع قصعُتها الغذائية للوافدين إلى رحمة الله .

في هذه الإطلالة نحاور الخبير الزراعي المهندس/ الهيبة سيد الخير، مهتم بالبيبة وباحث في مجال الطبيعيات.
حوار / وكالة مصدر للأنباء
ما هو تعريفكم كمختص للأمن الغذائي؟
هناك مفاهيم أساسية متعلقة بالأمن الغذائي حسب الإطار الاستراتيجي العالمي للأمن الغذائي والتغذية، حيث يتحقق الأمن الغذائي عندما تتوافر لجميع الناس، في كل الأوقات، الإمكانات المادية والاجتماعية والاقتصـادية، للحصـول على أغذية كافية وســـــــليمة ومغذية تلبي احتياجاتهم التغذوية وتناســـــــب أذواقهم الغذائية للتمتع بحياة موفورة بالنشـــــــاط والصــــحة.
بتعبير أدق ، كيف يفهم المواطن البسيط أبجديات الأمن الغذائي ؟
يتم تصنيف الأمن الغذائي ضمن محورين اثنين :

أولا : الأمن الغذائي المطلق:

يعتمد هذا المفهوم على قدرة بلد ما على انتاج كافة احتياجاته الغذائية داخل حدوده، وبالاعتماد على موارده الذاتية، ومن الجلي أن هذا النموذج مكلف من الناحية الاقتصادية نظرا لعدم الاستفادة من الميزة النسبية للإنتاج، وفرص التبادل التجاري الأولي.

ثانيا : الأمن الغذائي النسبي:

ويعتمد هذا المفهوم على تركيز بلد ما على إنتاج جزئي لسلع أساسية، مع التركيز على الحد الأدنى من التزود الثابت بتلك المنتجات الأساسية والحيوية.

نحن اليوم أمام واقع جديد واستثنائي بفعل تأثير جائحة كورونا، ما الذي يترتب على ذلك ؟
تفرض الجائحة علينا اليوم وضع نموذج بديل للأمن الغذائي يعتمد على استخلاص العبر من تداعياتها، بحيث يكون قادرا على تجاوز تحدياتها، ومحصناً لبلدنا من أزمات قادمة،..

كيف ذلك ؟
هذه الأزمة أظهرت أنه لم يعد بالإمكان اليوم الاعتماد على الاستيراد كوسيلة للحصول على الغذاء، باعتبار أن طول أمد الأزمة غير معروف، ويمكن للتجارة الدولية أن تتوقف نهائيا، أو أن الدول المصدرة ستتوقف عن تطبيق التزاماتها إذا افترضنا وجود اتفاقيات شراكة.

سيعتمد هذا النموذج على اختيار ذكي لمنتجات غذائية معينة، توفر حاجة السكان بالكم والنوع المطلوبين، وبحيث يكون إنتاجها لا يستدعي الاعتماد بشكل كبير على المدخلات المستوردة، وبناء مخزون للطوارئ، لتلك الضرورية والقابلة للحفظ مثل الاسمدة.

وما هي الآليات الضامنة، والكفيلة بتجسيد هذا التصور ؟
يشترط في هذا النموذج أن يرتكز علي الأسس المعهودة لأي نموذج للأمن الغذائي، حيث يجب أن يتوفر الغذاء بالكم الكافي، وأن يكون متاحا لعامة الناس، وهذا طبعا يقتضي توفر آليات للولوج للغذاء للفئات الغير قادرة علي ذلك بالطرق المعهودة، وأن تكون تلك الآليات جاهزة للتفعيل عند الاقتضاء..

كما تشمل تلك الأسس توفر ظروف الاستخدام الأمثل للغذاء، بما يضمن كفاءة ونجاعة كل المراحل الواقعة ما بعد الإنتاج، كالتخزين والنقل وضمان صحة وجودة الغذاء، ومواءمته لكافة أفراد المجتمع،

أما المرتكز الرابع فهو الثبات أي توفر المنتجات الغذائية الحيوية بشكل مستمر، خصوصا في ظل كل أشكال الصدمات .

كيف كانت المؤشرات الأولى لانعدام الأمن الغذائي في البلاد ؟
تعرضت بلادنا بداية عقد السبعينات من القرن الماضي لأزمة غذائية حادة، نتجت عن جفاف منطقة الساحل، وقد نجم عن تلك الأزمة تحولات اقتصادية واجتماعية هامة، ستسهم في زيادة الفجوة بيننا وبين أمننا الغذائي..

فـلقرون خلت كان سهل شمام المعطاء وواحات وسهول البلاد توفر الغلال، في حين كانت الثروة الحيوانية الهائلة توفر البروتين الحيواني بفضل تناغم أنماط الانتاج مع حياة السكان.

شكلت الهجرة من الريف الي المدينة بداية انفراط عقد التناغم بين السكان وأنماط الإنتاج، فأصبحت منتجات الألبان في غير متناول اغلب السكان، كما أن إنشاء سد منتالي سيقضي على الزراعة الفيضية في سهل شمام، بينما ستعجز الزراعة المروية عن توفير ما كانت تجود به الزراعة الفيضية، ناهيك عن تحقيق الاكتفاء الذاتي.

شهدت سنة ۲۰۰۸ أزمة غذاء حادة، أطلق عليها حينها ” ثورة الجياع” كيف واجهت الحكومة حينها تأثيرات تلك الأزمة ؟
لقد شكلت أزمة الغذاء سنة ۲۰۰۸ فرصة أخري لتسليط الضوء من جديد علي هذا المفهوم ، حيث وصل الأمر ببعض دول العالم لتحريم بيع الغلال، مما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في الأسعار، هذا إن وجد الغذاء أصلا، فلأول مرة في التاريخ الحديث لم تعد النقود تضمن الحصول على الغذاء وقد قامت بلادنا بإنشاء مشاريع هيكلية كمشروع السكر، ومصنع البان النعمة، ومشروع التحين الوراثي، وقناة لمصيدي، لكن سوء التخطيط ورداءة التنفيذ أجهضت تلك المشاريع .
برأيك ما سر تعثر تلك المشاريع وعدم نجاحها في تأمين الغذاء ؟
تعاني بلادنا من غياب نظرة استراتيجية حقيقية لتحقيق أمننا الغذائي، فباستثناء بعض الاستراتيجيات والخطط التي تٌعد في إطار البحث عن التمويلات، فلا توجد على أرض الواقع جهود تذكر، ويكفي أننا نعتبر أن الدعم الغذائي الأجنبي كفيل بتحقيق الأمن الغذائي، حيث تُعد مفوضية الأمن الغذائي هي الضامن الفعلي لأمننا الغذائي!

إذن هي مفوضية للأمن الغذائي المنتج محلياً، أم وسيلة لاستجداء المساعدات الغذائية الأجنبية ؟!
أنشئت مفوضية الأمن الغذائي سنة ۱۹۸۲ على أنقاض عدة مؤسسات، كان أولها عمليات خطة التدخل السريع OPU، والتي ظهرت سنة ۱۹۷۳ لتنسيق توزيع ما عرف حينها بالإسعافات، ثم تلاها إنشاء المكتب الوطني للحبوب OMC، فمفوضية المساعدة الغذائية، وأخيرا مفوضية الامن الغذائي، ويتضح جليا بأن هذه المفوضية أنشئت كمنصة لاستقبال وتوزيع المساعدات الغذائية لا أكثر ولا اقل، وقد لعبت هذا الدور منذ بداية إنشائها ولحد الساعة.
لقد حدد آخر مرسوم منظم لعمل المفوضية وهو الـمرسوم۱۹۲-۲۰۰۸ الصادر بتاريخ ۱۹ اكتوبر سنة ۲۰۰۸ مهمتها الأساسية في إعداد وتنفيذ السياسة الوطنية في مجال الأمن الغذائي في حين يقتصر دورها على توزيع المساعدات!

من هذا المنطلق لا ترى أي داع ولا مبرر لوجود هذه المفوضية ؟
إن اعتماد أمننا الغذائي على وكالة لتوزيع المساعدات الغذائية من بعض الدول المانحة، يعكس خللا بنيويا وعمي ألوان لصناع القرار، فهذا الدور يمكن أن يقوم به المجتمع المدني، ولا يجب ان يكون تحت يافطة الأمن الغذائي، فإذا كان المال لا يضمن تحقيق الامن الغذائي فهل يُعقل أن نعتمد على المساعدات لتحقيقه ولفترة تقترب من نصف القرن.

واقعيا هل هناك إمكانية موضوعية لتحقيق الأمن الغذائي في البلاد ؟
لا يحتاج تحقيق الأمن الغذائي لبلد سكانه بعدد سكاننا لمعجزة، خصوصا أننا نملك موارد كبيرة، لم تستغل بشكل ملائم لحد الآن، وأنصح صناع القرار بما يلي:

إجراء مسوح ودراسات جادة، لتحديد الوضعية الراهنة لكل شُعب الانتاج، فالمتوفر حاليا عبارة عن دراسات تجميلية، أنتجت في ظل مزادات حقيقية ـ فكل ادارة جديدة تضع رقم إنتاج خاص بها، ليصل الإنتاج إلى أرقام خيالية، وأفضل دليل على ذلك، أرقام وزارة الزراعة..
كما أن أزمة الصيد الأخيرة عكست زيف الأرقام، فالدراسات وأرقام المنتسبين إلى الاتحاديات وأعداد خريجي مؤسسات التكوين كلها تعطي صورة مغلوطة ضللّت صناع القرار؛
إجراء إصلاح عقاري بما يسهل بيع وتداول الأراضي الزراعية خدمة للاستثمار، فالملكية تقليدية؛ والمستثمر لم يرث الارض فكيف سيلج إليها؛
سنّ حزمة من قوانين الاستثمار لتشجيع المستثمرين؛
إصلاح منظومة القرض بما يضمن تمويل الاستثمار وولوج صغار المنتجين له؛
تطوير البحث والارشاد والتكوين؛
إنشاء شبكة واسعة من وحدات جمع الحليب لتزويد مصانع إنتاج الحليب؛
تطوير الزراعة العلفية؛
دمج قطاع الصيد في الاقتصاد الوطني وتثمين منتجاته

ختاما، كيف تقيمون تجاوب الحكومة الأخير فيما يتعلق بتدابير تحقيق الامن الغذائي لمواجهة التأثيرات السلبية لفيروس كورونا؟
لقد باغتت الجائحة الجميع، وقد قامت وزارة التنمية الريفية باتخاذ جملة إجراءات لتخفيف وطأتها لكنها بالمجمل إجراءات تكتيكية قصيرة المدي، ولا زلنا لحد الساعة في انتظار بلورة استراتيجية وطنية تكون قادرة علي دفع وتوجيه الجهود الوطنية للوصول للاكتفاء الذاتي للبلاد، وهذا الهدف مشروع وقابل للتحقيق ويستحقه الشعب الموريتاني.

مقالات ذات صلة

اترك ردا

زر الذهاب إلى الأعلى